خلال الأسابيع الأولى التي أمضتها عربة الاسعاف في مقر المنظمة دون مهمة كنا نتساءل ؛ متي سوف تنطلق في اول رحلة ؟ والي اي القرى ؟ومن ستقل ؟ بنفس تواق وفضول عظيم كنا ننتظر لحظات اول انطلاقة للإسعاف … ذلك الترقب لم يكن قضية مزعجة ولم يكن حلم نرجو تحقيقه ؛ فنحن نتمنى بكل عمق ان يتمتع اهلنا بدوام الصحة والعافية ولا يضطرون الي ركوب الاسعاف ؛ لكنه استعدادنا الكبير لتقديم العون وإغاثة الملهوف ..بل هو استعداد لإنهاء فصول تلك القصص التي تحكي عن وفاة الحوامل في طريقهن الي المستشفى .
عند الساعة الثامنة من صباح الاثنين الموافق 31 ديسمبر 2013 اتصلت هاتفيا بالمنظمة الزائرة الصحية لقرية قلسا ، اخبرتنا بأن هنالك امرأة بالقرية في حالة توجع وصراخ مودي ، وهي الساعات الاخيرة لوضع اول حمل لها .. استغاثت بشدة وطلبت الاستجابة السريعة حيث لا توجد هنالك عربة ولا مسعف وقد تجمدت الامال وتسيد الخوف علي نفوس الاهل والأحباب ..
تحركت الاسعاف في صفير عالي نحو القرية ؛ شقت الطرق كالسهم تدفعه ريحا عاقية لتصل الي دار فاطمة القابعة في نهاية القرية ؛ كان الأهل يحيطون بدارها من كل الاتجاهات ؛ الكل يقف من اجل ان يفعل شي يساعد به… التفت انظار الحاضرين الي الاسعاف وأسرعوا في نقل فاطمة الي داخلها ؛ دقائق معدودات وانطلق صفيرها الي مدينة كسلا متوجها الي مستشفى الولادة المركزي ..
داخل الاسعاف كانت فاطمة تتألم ؛ لكن ليست بتلك الالام المألوفة للنساء في مثل هذه الاوضاع .. فآلامها كانت ممزوجة بفرح وشوق عارم لرؤية اول مولد ؛ المولود الذي طال انتظاره ؛ فقد كان مقدرا لفاطمة ان تصبح اما بعد 23 عام من زواجها وان تفارق في هذا اليوم اعواماً من التمني والانتظار وأن تطرد بقوة ذلك اليأس الذي لطالما عاش في قلبها وان تخلع اثواب الاحزان وتتخلص من مذاق الحرمان ..
ان هذه الالام هي التي ستجيب علي ذلك السؤال الذي ظل يذبحها من الوريد إلى الوريد في اليوم ألف مرة ؛ كانت لا تملك الجواب عندما تسأل عن سبب تأخر انجابها ؛ تلك الالام ستجعلها تدخل البهجة على قلب زوجها الوفي المكسور امام ذات السؤال ..
انتهت رحلة الاسعاف الاولى عند باب المستشفى ؛ وبعد ساعات اصبحت فاطمة أم تحتضن بين يديها طفلاً رائعاً ؛ ومن الجانب الاخر علت اصوات المزغرطات وانشغل الزوج باستقبال التهاني والتباريك من الرجال ؛ وقد تهيأ لمنادة طفله (يا ولد) .
في وداع بلغة الصمت تساءلت فاطمة ماذا كان سيحدث لو لم تقلني هذه الاسعاف ؟ وكأنها استحضرت من الذاكرة تلك القصص الحزينة لأولئك النساء الحوامل اللائي توقفت انفاسهن في الطريق من قلسا الي كسلا وهن حالمات بمولد جديد .